مقدمة: بسمة الشريف
التعريف الأبسط لمصطلح الجنوب العالمي والجنوب العالمي أنه يحدد البلدان الغنية والفقيرة، والدول النامية مقابل الدول الصناعية؛ أولاً بالنسبة لدول العالم الثالث، كمنزلة يمكن تحديدها جغرافيًا. أما الفهم الأدق للمصطلح فيعتمد على فصل الصبغة الإقليمية عن تلك المنزلة (بالنسبة للجنوب العالمي داخل الشمال العالمي، والعكس) ويبدأ في اقتفاء أثر هيمنة القوة الاقتصادية التي لا تقتصر على الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب. من هنا، يمكننا تصور التجربة المركبة للأفراد الذين خضعوا لهيمنة التحالفات الاقتصادية التي ترسم الحدود، وتقر صحة الهويات (عرقية كانت أم دينية أم جنسية)، وتقرر من الذي يُمنح امتيازات باسم الدولة القومية
تترادف اليوم في فلسطين قوى التحالف الاقتصادي العالمي لإسرائيل مع قابلية الاحتلال. بمعنى آخر، شرذمة السكان في الداخل، وخلق مختلف الأوضاع المشروعة على الأرض المحتلة وخارجها، دون وجود صوت موّحد أو رواية ثابتة يمكنها التعبير عن معنى أن تكون فلسطينيًا اليوم؛ بل هناك العديد من الأصوات والتجارب
استجابة لموضوع احتفالية فلسطين للادب لهذا العام 2023، تطرح مجموعة مختارة بعناية من الأفلام التي تتضافر مع البرنامج، رؤية بديلة لفرض الطبقة الحاكمة سيطرتها على زمام التاريخ والحاضر وحتى المستقبل
عبر طيف من الطرق التي يمكن بها للغة المرئية إعادة النظر في المفاهيم الثابتة ومراجعتها، تصور تلك الأفلام حكايات يرويها الأفراد، حيث تحيي المشاهد شخصيات متعددة الجوانب، وتجارب ذاتية بكل تحيزاتها وفروقها الدقيقة وخصائصها الزائلة، حتى نتساءل كيف نفهم أنفسنا في ضوء علاقتنا بالسلطة
في هذا السياق، لا تعد هذه الأفلام تسلسلية بالضرورة، كما أنها ليست سردية؛ شكلها ذاته يتحدى توقعاتنا بخصوص إمكانات الصورة المتحركة وبناء الفيلم. ومن ثم، فهي تحتاج اهتمام من جانبنا، وصبر، وعين مدققة، وفي المقابل تدعونا إلى مساحات مورقة ومعقدة، حيث توّلد لغة جديدة لوصف الظلم والقمع والنضال من أجل رفع الصوت تحت وطأة الهيمنة والحصار
Kent McKenzie, 1961, 72 mins
انطلاقًا من القدس، نقابل مجموعة جامحة من الأمريكيين الأصليين يهرولون في لوس أنجلوس في فيلم "المنفيون" لكينت ماكينزي. بعد استبدال حياة المحمية بمقاطعة بانكر هيل الخربة، يتتبع الفيلم تجول المجموعة على مدار ليلة واحدة. دون محاولة التصالح مع الماضي، نشهد تجربة حياة شباب محرومين من حقوقهم، يصارعون أصولهم الراسخة من أجل تحقيق الوعد بالانتماء إلى مجتمع لا يكاد يعترف بوجودهم. يطرح الفيلم مسألة ما إذا كان هذا الاندماج سيحرر هؤلاء الشباب أم سيعمق إحساسهم بالغربة
Kevin Jerome Everson & Claudrena N. Harold, 2013, 20 mins
بعد ذلك، لدينا فيلم يبدأ بخطاب لفيفيان جوردون، مديرة برنامج الدراسات الأفرو أمريكية بجامعة فرجينيا بين عامي 1975 و 1980، وتلعب دورها الممثلة إيرين ستيوارت. جوردون تحاضر مجموعة من الطلاب كما لو كانت تخاطبنا في فلسطين، تقول بطريقة تشبه النبوءة "نحن بحاجة لأن نتعرف على بعض حقائقنا، بعض الناس يعانون من هذا الوهم بأن التقدم يحدث تلقائيًا بمرور الوقت..."
يُعد فيلم "السم في العسل" ( المصور بالأبيض والأسود على فيلم 16مم) مراجعة للسجلات الأرشيفية، بمشاركة طلاب جامعة فرجينيا في عام 2012. يعرض الفيلم مشاهد عابرة لطلاب في الحرم الجامعي، ينكبون على قراءة النصوص أو لعب كرة القدم، بنفس الاهتمام الذي يأخذنا به للاستماع إلى خطاب جوردون. نقابل كلماتها مرتين مع تغيير بسيط: خطاب يبدأ من نهاية سابقه؛ خطاب بصوت أحد الممثلين، والآخر بصوت جوردون، والخطابان يتداخلان مع مشاهد وصور من الماضي. عند الحديث عن اكتساب ثقة الطلاب كأداة فعالة لإعادة توجيه المستقبل، نفهم أن الصور التي تبدو واضحة تشير إلى صراع دائم بقدر ما تشير إلى تعرض الجسم البشري للظلم. يذيب الفيلم الماضي في الحاضر ليذكرنا بأن هناك ما يتعين علينا القيام به
Sky Hopkina, 2014, 6 mins
نصل للعرض الأخير في القدس وهو فيلم قصير للمخرج سكاي هوبينكا. بصفته عضوًا قبليًا في عشيرة Ho-Chunk وينحدر نسله من البيدجانجا، يعدد فيلمه "واوا" الصور والأصوات واللغات والترجمات حول لغة أصلية: التشاينوك واوا التي نشأت في شمال غرب المحيط الهادئ ونتيجةً للاستعمار المتتالي كادت تذهب طي النسيان بالإكراه
تتشابك المقابلات التي أجريت مع ويلسون بوب، وهو متحدث أصلي للغة التشاينوك واوا، فيما يشبه درس للغة مهجورة، وتضم تلك المقابلات عالم اللغويات هنري زينك وسكاي هوبينكا نفسه. نختبر تلك الطبقات عبر خلال الصوت والنصوص، بعضها مترجم والآخر متروك كما هو لشحذ اهتمامنا. اللغة منفذ للتاريخ والهوية، ولذا نخوض تجربة صوتية لمثابرة شعب رغم كل الصعاب عبر دمج الإشارات المختلفة في هذا الفيلم.
[ملحوظة: لا يمكن ترجمة هذا الفيلم إلى لغة ثالثة]
Ana Vaz, 2014, 15 mins
في حيفا، يأخذنا الصوت إلى فيلم أنا فاز "الغرب". نأتي من المحيط لنهبط على شواطئ البرتغال وسط مشاهد خضراء تثيرالنظرة العطشى للزائر مع استمرار الماضي الاستعماري. بأسلوب ساخر لا يخلو من المرح، يصور الفيلم السُلطة، والصراع الطبقي، والثقافة الإمبريالية كأشياء شاذة، فينقلب السعي الاستعماري الوحشي وراء ثروات الآخرين على نفسه. هنا يُترجَم ميراث الغرب إلى محمية للغزو الوحشي. يخلو الفيلم من اللغة المنطوقة لكنه غني بلغة الصورة والشفرات المرئية: القطع الأثرية للمتاحف، وصواني الطعام، والآثار الوطنية، والركمجة وسط أمواج كالجبال تحيلنا إلى استحالة الرؤية المحايدة
Deborah Starttman, 2016, 60 minsيصور فيلم "مواعظ إلينوي" لديبورا ستراتمان، الذي سيعرض في رام الله، فترة زمنية، في المكان المعروف الآن باسم الينوي، تمتد من زمن ما قبل الحقبة المشتركة، حتى أواخر القرن العشرين. عبر إحدى عشرة صورة مظللة لمواقع مختلفة في جميع أنحاء الولاية، يثير الفيلم القصص الوعظي حيث يسترجع فيلم The Trail of Tears ويعيد تصوير اغتيال فريد هامبتون على يد شرطة شيكاغو. يمزج بمهارة الصور الأرشيفية مع لقطات حقيقية ليأخذنا في رحلة عبر تاريخ المكان كما يحكيه مختلف سكانه بالإضافة إلى علاقاتهم الفردية به. اللافت للنظر هنا هو انتماء هذه التواريخ، والهويات، والمشاهد الطبيعية، التي تبدو غير مترابطة ظاهريَا، إلى دولة واحدة، مما يدفع بمجموعة الأفراد والقصص التي نتعرف عليها من خلال الفيلم إلى مشاركة نفس الرواية، وبالتالي نفس المستقبل
Adam Khalil & Zach Khalil, 2016, 75 mins
SE فيلم وثائقي لآدم وزاك خليل يقاوم التسلسل في استكشاف نبوءة الحرائق السبعة لقبيلة الأوجيبواي: شعب Anishinaabe فيما يعرف الآن بكندا وشمال غرب الولايات المتحدة. التنبؤ بوصول المستوطنين الأوروبيين إلى أراضي السكان الأصليين يتم تجاوزه وإعادة سرده من خلال التشكيك في منظور رواية تاريخ مصير الشعوب الأصلية، وفضح التاريخ المخزي للعنف من قبل المبشرين المسيحيين
INAATSE / SE تجربة في بناء الفيلم تأخذنا إلى الحاضر، وترد على السجلات والمتاحف، وتظهر تركيبة تكوين الهوية الأصلية في ظل الهيمنة الثقافية بشكل راديكالي. فيلم بلا بداية أو نهاية واضحة؛ بل مراجعة مستمرة وفحص ومقاومة فعالة
Mariah Garnett, 2019 , 83 mins
في دار جاسر في بيت لحم، تلعب ماريا جارنيت على الأدوار الجنسانية، حيث تلعب دور والدها البروتستانتي البعيد في فيلمها "المتاعب"، بينما تلعب ممثلة متحولة جنسيًا دور أمها الكاثوليكية في فيلم يفند قص رواية والديها عبر فيلم وثائقي مشوه من إعداد هيئة الإذاعة البريطانية في عام 1971. في ذروة مشاكل أيرلندا الشمالية، يقع الزوجان في الحب رغم اختلاف الدين، بشكل يوازي بين الصدمة السياسية في بلفاست أيرلندا وصدمة حياتهم الشخصية. تجتمع خيوط هذا الفيلم الوثائقي الغريب والهام فتتضح ملامحه بينما يحمل الماضي ليجره إلى حاضر سياسات الهوية
Coleman Collins, 2019, 25 mins
في رام الله، يخدعنا فيلم "تحديد المسافات" لكولمان كولينز بمهارة، حيث تعرض الموضوعية الزائفة لتسجيلات الأيفون المرئية مع الإطار الثابت مواقع مختلفة من موضع بعيد ظاهريًا. تنسيق المشاهد مع أغنية ما يثير بساطة المعروض، مما يجبرنا على النظر في علاقة هذه المساحات ببعضها، وكيف يُعرّف الأشخاص عبر الأماكن التي يشغلونها، تمامًا كما هو الحال مع إطار الكاميرا، وبنفس الطريقة التي ترسم بها الحدود الأفراد داخلها وخارجها. كلما طال تأملنا، زاد التوتر: التدفق التجاري، لكن الأفراد يُنقلون ضد إرادتهم أو يمنعون من المضي قدمًا بقوة خفية تتجاوز الإطار
ملاحظة أخيرة على البرنامج
بعد أن تشرفت بدعوتي إلى تنظيم برنامج الأفلام لاحتفالية فلسطين للأدب لهذا العام، أشعر أنه من المهم أن أعرب عن أسفي لعدم قدرتي على التواجد في فلسطين لأقدم لكم هذه الأفلام، أو الحضور بشخصي لمناقشة العديد من القضايا الهامة والأسئلة التي تطرحها هذه القصائد البصرية
كفلسطيني في الشتات، أنا محظوظ وسيء الحظ في الوقتنفسه لأني أحمل بطاقة هوية من غزة. محظوظ لأنها تسمح لي بمواصلة زيارة غزة حيث ُشددت القيود حول المنطقة المحاصرة، وسيء الحظ لأني ممنوع من دخول أي جزء آخر من فلسطين المحتلة منذ ما يقرب من عقدين. هذه سياسة ثابتة منذ اتفاقات أوسلو، قامت بمنع الفلسطينيين قسراً من الشعور بأننا شعب قادم من موقع جغرافي واحد، ولتعقيد الإحساس بأننا نواجه نفس الصراع
كمهرجان يواجه ثقافة الحصار والتنقل المقيد للأفراد داخل الأرض المحتلة ببرامجه المتنوعة في جميع أنحاء فلسطين المحتلة، أعرف أن البرنامج الذي جمعته لكم يتناغم مع فعاليات بالفست لهذا العام وهو في أيدي أمينة لفريق تنظيم الاحتفالية. آمل أن يخلق هذا البرنامج السينمائي ككل روابط خارج الحدود الإمبريالية الجغرافية التي تفرضها إسرائيل
بسمة الشريف
القاهرة